القائد العيادي الرحماني (الجزء الثالث) ل ذ.عمر الابوركي: القائد العيادي والاستعمار
ثالثا:القائد العيادي والاستعمار
لعب الاستعمار دورا فاعلا في حركية المجتمع المغربي،وتفاعل مع المؤسسة القائدية، فلابد من استقراء انعكاسات هذا التفاعل على بنية العالم القروي،لأن بواسطة هذه المؤسسة زرع الاستعمار هياكله،وفكك بعضا من البنية القبلية التقليدية.فكيف كانت علاقة العيادي مع الاستعمار ؟وكيف انعكست هذه العلاقة على المجال القروي للرحامنة؟
لقد سبق الحديث عن علاقة العيادي بالاستعمار منذ اندماجه في سياسة القواد الكبار مع بداية التدخل الفرنسي،ويمكن الوقوف على طبيعة هذه العلاقة من خلال مرحلتين هامتين تواجد فيهما بكل ثقله القبلي وحسه السياسي:مرحلة الدخول الفرنسي إلى مراكش،ودور قواد الحوز في هذه العملية،ثم مرحلة الأزمة السياسية بين السلطان والحركة الوطنية من جهة،والإقامة العامة من جهة أخرى.
كانت العقبة التي واجهت ليوطي في منطقة الحوز هي حركة المقاومة التي قادها الهيبة بنشر فكرة الجهاد ضد « النصارى » و »الكفار » مستغلا تذمر القبائل من سلطة القواد ونهبهم،فألهب حماس القبائل،وزعزع مواقف القواد وسلطتهم، فانتشر صداها ليعم كل قبائل سوس و حاحة والشياضمة وقبائل الحوز.ولمواجهة حركة المقاومة هاته قرر الفرنسيون الاعتماد على قواد الحوز الكبار،وبما أن العيادي كان هو الرجل القوي بالرحامنة التي تشكل مدخلا إلى مدينة مراكش،فلا يمكن الاستغناء عنه لمواجهة الهيبة،والدخول إلى عاصمة الجنوب.وقد ذكر أحد الضباط الفرنسيين أن ليوطي اعتمد على قواد المنطقة الجبلية،واستعان أيضا بقائدين عربيين شمال مراكش هما:الحاج العيادي بن الهاشمي قائد الرحامنة،وعيسى بن عمر قائد عبدة. (10)
انقسم القواد وترددوا،فمنهم من انضم إلى جانب الهيبة،ودعمه بالرجال والسلاح كالحاجي قائد الشياضمة،وحيدة أميس المنابهي،وعبد السلام البربوشي الرحماني.وعند دنو الهيبة من مراكش خرج قواد الحوز الكبار؛المدني الكلاوي والمتوكي والعيادي لاعتراض طريقه ومجابهته،لكنهم عدلوا عن مواجهته،واستقبلوه،بينما بقي القائد الكندافي يراقب تطور الأحداث،ويصف لنا صاحب المعسول هذا الاستقبال: « خرج الفقيه السيد المدني الكلاوي وأخوه القائد التهامي،والقائد العيادي الرحماني لمدافعته(يعني الهيبة)،فلما تراءى الجمعان فشلت عساكرهم شأن غيرهم من غير طعن ولا ضرب،وانقلبوا من المدافعة إلى المداهنة والمهاداة،فتلقوه بالهدايا بنحو عشر كيلومترات من مراكش وقيل أن الكلاوي أهدى إليه خمسين عبدا كل عبد بفرس،وعلى رأس الجميع مائدة مملوءة بالنقود الذهبية والفضية،وأن القائدين المتوكي والرحماني فعلا مثل ذلك. » (11)
)
ومع دخول الهيبة إلى مراكش بداية شهر رمضان 1330ه الموافق لشهر غشت 1912م قام باحتجاز مجموعة من الفرنسيين المتواجدين بمدينة مراكش،وعلى رأسهم:القنصل الفرنسي مكريت »MAIGRET « ،والدكتور كيشار » GUICHARD » والضباط :هارينغ » HARING ، هانيس « VERLET- HANUS » وكوادي « COUADIT ».وقد بدأ الصراع بين الهيبة والفرنسيين بأزمة الرهائن التي جعلت القواد مترددين،ولجأ العيادي إلى الوساطة بين الطرفين لحل هذه الأزمة،وحاول إطلاق الرهائن بتقديم فدية مالية،لكنه فشل في مسعاه،بعد أن رفض الهيبة تدخله ليستعمل الرهائن كورقة ضغط،ويحول دون تقدم القوات الفرنسية اتجاه مراكش،وعلى الرغم من ذلك بقي العيادي على اتصال بالفرنسيين ليظهر إخلاصه لهم ماداموا يتحركون باسم المخزن.(12)
إن حياة القائد تخضع للاختيارات الصعبة،فهي محفوفة بالمجازفة والمخاطر،وغالبا ما يمر من مآزق قد تعصف بسلطته،وثروته،وقد يكتسب حسا من ممارسته ينفعه خلال الأزمات التي يمر منها.وقد شكلت قضية الهيبة امتحانا عسيرا لقواد الحوز،وهكذا كان العيادي مع القواد الذين استقبلوا الهيبة على مداخل مراكش،لكنه لم يفرط في علاقته مع الفرنسيين،بحيث بقي أيضا على اتصال مع الكولونيل مونجان « L.MANGIN » الذي دخل المجال الرحماني شمال مراكش.وقد لعب القائد العيادي هذا الدور المزدوج،وبقي في زمرة القواد الذين جمعهم ليوطي في تحالفه لمواجهة الهيبة وأتباعه،وقد أكد ويسجربر هذه العلاقة،واصفا إياه بالذكي والمقدام.(13)
وما يؤكد هذا الموقف المزدوج لقواد الحوز،هو أن قواد سوس أنفلوس والجلولي،وحيدة أميس حذروا الهيبة من الكلاوي والعيادي والمتوكي لأنهم « أهل مكر وخديعة » واقترحوا أن يجعلهم في مقدمة الجيش القبلي الذي سيواجه الفرنسيين،تحت إمرة أخيه مربيه ربه،لكنه لم يأخذ برأيهم،فتظاهروا له بالولاء،في الوقت الذي كانوا ينسقون سريا مع الفرنسيين. وكانت معركة » أربعاء الصخور » يوم 24 غشت 1912م،والتي كادت أن تلحق الهزيمة بالجيش الفرنسي الذي تراجع إلى معسكره البعيد،و كادت الهزيمة أن تحل به،فراسله قواد الحوز لمضاعفة الجهد و إعداد العدة للنزال مرة ثانية : « فلما أنس القائد العيادي و قبائله من الرحامنة وجيرانهم الذين حلت الجيوش الإسلامية السوسية بأرضهم، ما تم في عسكر العدو،و خافوا أن تمت عليه الهزيمة ثانية أن لا يعود إلى القتال)…(فهجموا على معسكرهم الذي فيه مئونتهم العسكرية و العدة،و فيه الخليفة مربيه ربه مع إدالته القليلة،وضربوا فيه قتلا ونهبا، وكذلك فعل إخوانه قواد الحوز الكلاوي والمتوكي بمراكش فقد حاصروا فيه الهيبة أيضا،ولما سمع عسكر المسلمين ما تم من قواد الحوز من الغدر فشلوا ورجعوا متفرقين شذر مدر كل إلى قبيلة بلاده ».(14)
وتعددت المواجهة عبر نقط العبور داخل المجال الرحماني في الطريق إلى مراكش ،فكانت معركة ابن جرير يوم 31 غشت من نفس السنة قبل المعركة الكبرى بسيدي بوعثمان يوم سادس شتنبر 1912م والتي انهزم فيها الهيبة،واندحرت حركة المقاومة،وبعدها مباشرة راسل الكولونيل مونجان القائد العيادي و الكلاوي و المتوكي يحذرهم من أي خطر يلحق بالرهائن،و يدعوهم إلى العمل على تحريرهم.و هكذا كانت فعاليتهم وراء هزيمة الهيبة و تراجعه خارج أسوار مراكش بعد تحرير الرهائن،و تقدم الكلاوي و العيادي الضابط الفرنسي عند دخوله إلى مراكش،كما انضم إليهم بعض القواد الذين كانوا في صفوف الهيبة، وأولهم قائد سوس حيدة أميس،و قائدي الشياظمة خبان و الحاجي,بينما فر البعض أو سجن كالقائد عبد السلام البربوشي الرحماني وهو أكبر منافس للعيادي داخل القبيلة.(15)
إن موقف القائد العيادي إلى جانب القواد الكبار عند دخول الفرنسيين عزز جانبه،و جلب له الاعتراف الفرنسي بعد أن نوه به الكولونيل مونجان ومنحه « وسام الشجعان »اعترافا له بدوره في الدخول الفرنسي إلى مراكش،و بذلك حافظ على مكانته،ووسع سلطته على حساب باقي قواد الرحامنة الآخرين. عندما حل المقيم العام ليوطي بمدينة مراكش يوم 11اكتوبر 1912 عقد اجتماعا حضره جميع قواد الحوز و هم : عيسى بن عمرا لعبدي، والمدني الكلاوي و التهامي الكلاوي وعبد المالك المتوكي،والطيب الكندافي والعيادي الرحماني وعشرة قواد آخرين وغاب القائدان: أنفلوس والجلولي.وقد تبادل الجمع تصوره حول الأهداف المشتركة سياسيا واقتصاديا،فكان التوافق والتعاون.ولم تقف علاقة العيادي مع الإدارة الاستعمارية عند هذا الحد بل شارك إلى جانب الكولونيل مونجان و التهامي وعبد المالك قواد كلاوة في حركة لصد هجوم على مدينة دمنات و « تهدئة »القبائل المجاورة.وقد ازداد خبرة لاحتكاكه بالضباط الفرنسيين،وأصبح رجل حرب متمرسا، ومفاوضا ديبلوماسيا ماهرا.كما ساهم في الحركات التي قادها الكولونيل دولاموط والتي أراد ليوطي أن تتم بتدخل القواد كقوى محلية لتفادي أية حركة جهادية ضد النصارى.
وقد بدأ طموحه يتجاوز مجال قبيلته ليصبح باشا على مدينة مراكش،فانتظر الفرصة ليدفع الفرنسيين إلى التخلي عن التهامي الكلاوي.وعندما عين الجنرال دوجان »DAUGAN » حاكما عسكريا على منطقة مراكش،لم تكن علاقته جيدة مع الكلاوي،وبعد ان تم إعفاء القائد الطيب الكندافي،حاول الفرنسيون أن يعزلوا التهامي الكلاوي من باشوية مراكش،ويتخلصوا منه نظرا لتعسفه وتجاوزاته. وفي تقرير رفع إلى ليوطي ينتقد فيه اورتليب « ORTHLIEB »-رئيس المكتب الجهوي-كلاوة لأنهم يعتبرون مدينة مراكش إقطاعيتهم الخاصة،و يزكي تعيين العيادي، ويقترح أن يكون هو الخلف المؤهل لهذه الوظيفة. يقول في تقريره: « إن الخلف لن يكون سوى العيادي المعزز بتحالف الرحامنة و قوة هامة داخل مراكش ».(16) إلا أن نفوذ التهامي الكلاوي وعلاقته المتينة مع الإقامة العامة حالا دون ذلك،ودفعا الفرنسيين إلى العدول عن منح الباشاوية للعيادي.
إن فعالية القائد العيادي لا تقل أهمية عن باقي النماذج القائدية،ولهذا استطاع أن يندمج داخل الصراعات و التحالفات،ويبني علاقته مع الاستعمار في مراحله الأولى على أهداف مشتركة تحركها قوى التغيير ومظاهر التحول التي عرفها المجتمع المغربي،لأن التدخل الفرنسي احدث هزة على مستوى الهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،لذلك كانت نهاية القائد القبلي،بعد أن وضع أمام تحديات تتجاوز مجاله المغلق.
كان القائد العيادي حليفا للفرنسيين منذ بداية الحماية،لكنه بقي مخلصا أيضا للمخزن المغربي الذي يستمد منه شرعيته، وكانت مشاركته في الحركات إلى جانب الفرنسيين لأنها تتم باسم المخزن.فمنذ أن منحه السلطان مولاي عبد الحفيظ ظهير تعيينه قائدا بقي وفيا له،ولكل السلاطين من بعده، مولاي يوسف،محمد بن يوسف(محمد الخامس) وهذا الوفاء لكل سلطان شرعي هو الذي سيحدث القطيعة النهائية بينه وبين الإدارة الاستعمارية.(17)
عند الحديث عن البعد السياسي للقائدية نستنتج أن تطورها وصل أوجه في العقد الخامس من القرن العشرين مع آخر مراحل الفترة الاستعمارية.فكما استخدمت كمؤسسة من اجل التوغل داخل البنيات المغربية،استخدمت كأداة لوقف التحول نحو تحرر المجتمع من الهيمنة الفرنسية.و لأنها انتعشت مع الاستعمار،فإنها-مجسدة في بعض نماذجها-حاولت عرقلة هذه الحركية،و بالفعل استطاع الكلاوي أن يجمع حوله تأييد القواد و الباشاوات الذين سيزعجهم ذهاب الاستعمار،من أجل توقيع الوثيقة التي تدين السلطان الشرعي.غير أن القائد العيادي رفض هذا الموقف،وحاولت الإقامة العامة أن تفصله عن السلطان محمد الخامس،وتقربه من الكلاوي لتكسير الاتجاه الوطني،لأن نفوذهما -العيادي و الكلاوي- كبير في منطقة تمتد من الحوز إلى الشاوية و تشمل مدينة مراكش التي كانت تلعب دورا سياسيا بارزا في تاريخ المغرب.هذا النفوذ سيساعد الفرنسيين على تحقيق مخططهم الذي رسموه،إلا أن الشقاق بين القائدين كبير رغم ماضيهما المشترك،وهكذا تمسك التهامي الكلاوي بمؤامرته إلى جانب الفرنسيين واختار القائد العيادي الرحماني الإخلاص للسلطان الشرعي،فكانت القطيعة النهائية بين الطرفين.(17)
إن فترة الخمسينيات تمثل مرحلة جديدة بالنسبة للعيادي,الذي راجع مواقفه المساندة للحماية الفرنسية، فبعد أن كان حليفا لفرنسا ومعها حلف الكلاوي، تحول إلى خصم عنيد رفض المشاركة في الخطة الاستعمارية التي اقتضت تنصيب سلطان جديد لاشرعية له، وعارض نفي محمد الخامس إلى جانب القائد لحسن اليوسي والبكاي باشا مدينة صفرو،الذين امتنعوا عن توقيع وثيقة تدعو إلى ذلك.
لم يقف العيادي عند هذا المستوى بل انه في نفس اليوم الذي تم فيه تنصيب محمد بن عرفة سلطانا،ترأس حركة انضم إليها بعض المقاومين،ودخل مراكش حيث كانت المواجهة مع رجال الكلاوي.هذه الحركة التي شجعت حركات مثيلة في مدن أخرى،وكانت بادرة على فشل المؤامرة الاستعمارية وابتعاد العيادي عن حليفه الكلاوي.(18)
نتيجة لهذا الموقف الوطني،تعرض القائد العيادي للاعتقال من طرف الإقامة العامة،وتم نفيه إلى فرنسا وبعد أشهر عاد إلى المغرب.و لأنه لم يعترف بشرعية « السلطان » الجديد،خضع للإقامة الجبرية بمدينة الدار البيضاء مدة سنتين،و تم تقسيم قبيلة الرحامنة أثناء غيابه إلى ثلاث قيادات جعلت الإقامة العامة على رأسها بعض مساعديه وهم: القائد رحال البهلولي بالرحامنة الشمالية،وخليفته وابن أخيه احمد بن الحسين بالرحامنة الوسطى والغريبة،ثم الخليفة الحسين بن المنصور بالرحامنة الجنوبية.
Commentaires récents