دراسات وابحاث: الرحامنة والمخزن
إن تناول العلاقة بين القبيلة و المخزن كإشكالية سوسيولوجية تساعد على فهم مساهمة المخزن كسلطة مركزية في تحول البنيات القروية في المجتمع المغربي ،و هي الإشكالية التي تعدد طرحها عبر مجموعة من المونوغرافيات التي تناولت القبائل المغربية في جل المناطق.من هنا يمكن قراءة العلاقة بين الرحامنة و المخزن خاصة نهاية القرن التاسع عشر،وبداية القرن العشرين،وهي مرحلة تحول هامة تساعد على فهم تأثير السلطة على العالم القروي وقياس أبعادها السياسية،والاقتصادية،والا جتماعية.
لا يمكن عزل هذه العلاقة عن الشروط المالية و السياسية التي عرفها المغرب نهاية القرن التاسع عشر بعد هزيمة تطوان(1859-1860) وما نتج عنها من أزمة مالية خانقة كانت من المتغيرات السياسية و الاقتصادية في تحديد بعض معالم التحول.لقد شكلت ذعيرة الحرب عائقا أمام أي إصلاح,لأنها كانت تمثل أضعاف مداخيل الخزينة أو تجارة المغرب في قيمتها الإجمالية مما جعلها نزيفا أنهك مقاومة و مناعة المجتمع المغربي. وبما ان العالم القروي كان هو مصدر الموارد المخزنية،فقد استنزفت القبائل،و لم تخرج قبيلة الرحامنة عن هذا المناخ الاقتصادي،و كان مبلغ الضريبة الذي فرض عليها يقدر بثلاثين ألف ريال،وهو مبلغ كبير يؤدي نقدا و يحدد مسبقا دون اعتبار لقيمة الإنتاج.(1)
إن الدراسات الأجنبية قدمت صورة مجزأة عن المجتمع المغربي،و ميزت بين القبائل « السائبة » و القبائل « المخزنية »,إلا أن هذه الثنائية لا تصمد أمام الوقائع التي تؤكد خضوع كل القبائل للسلطة المركزية، بتواجد السلطة القائدية،وبحدة كممثلة للمخزن داخل القبيلة.و الرحامنة من القبائل القريبة من مراكش إحدى أهم المدن المخزنية،التي كانت حاضرة في كل الأزمات السياسية التي عرفها المغرب. لقد كانت الرحامنة تطمح إلى تحسين علاقتها مع ممثلي المخزن بمدينة مراكش،كما كانت تسعى إلى تغيير القواد الذين لا ترغب فيهم،أو إلى التخفيف من الضرائب خاصة خلال سنوات الجفاف و الأوبئة.إن ظاهرة السيبة التي تحدثت عنها الأدبيات الاستعمارية تتضاءل أمام تواجد القواد الذين يعينهم المخزن،كما كان يأمر قبائل الجيش بحماية الطرق و المدن مقابل استغلال الأرض التي تتواجد بضواحيها.و الرحامنة التي لم تكن قبيلة جيش بل بحكم الموقع كانت تتكلف بحراسة الطريق المؤدي إلى مراكش,تحرس مجموعة من « النزلات » داخل مجالها الترابي.فهي مثل قبائل عبدة و المنابهة و حربيل,تمول الجيش المخزني بالفرسان والمجندين،و تنتظم تحت سلطة القواد،بينما باقي القبائل الأخرى تقدم النائبة لتعفى من الخدمة العسكرية.كما أن للموقع فعاليته في العلاقة بين الرحامنة والمخزن،لان القبيلة في مجالها النهائي شكلت ممرا للحركات المخزنية والمحلة السلطانية بين بلاد الشاوية و مدينة مراكش،مما حتم تفاعلها مع الأحداث التاريخية،و أزم علاقتها مع المخزن أحيانا.
عرفت القبيلة نهاية القرن 19م عدة انتفاضات،فكانت تهاجم مدينة مراكش تدخل ساحاتها و تنهب أهلها،مادام النهب يعد نمطا إنتاجيا يجد جذوره في البنية القبلية ويسم العلاقة بين القبائل.و تسجل الكتابات أن الرحامنة كانت في نزاع دائم مع قبائل الشراردة و أولاد دليم عندما داهمت هذه الأخيرة و قتلت الكثير من أفرادها و نهبت خيراتها و غنمت منهم الكثير(2).و تعم هذه الانتفاضات في فترات ضعف المخزن وغيابه،أو انشغاله، أما بعد استرجاعه لهيبته،فكان ينظم « الحركات » للقضاء على تمرد القبائل وعصيانها، ويجبرها على دفع الضرائب،والالتزام بالكلف المحزنية.و قد ذكر الناصري صاحب الاستقصا أن الحسن الأول و هو في طريقه إلى مراكش حاول القضاء على تمرد الرحامنة التي نهبت مدينة مراكش،ففرض عليهم « الغرامة » و « المونة » مثل باقي القبائل التي حصل منها اعوجاج و تمرد.ويصف هذه الحادثة : « لما قضى السلطان اعزه الله سنة العيد نهض على مراكش,فلما قرب من زاوية ابن ساسي بين بلاد الرحامنة و زمران,نزل هنالك على الرحامنة,و كانوا قد حصل منهم اعوجاج,و تمرد فوظف عليهم من الأموال ما اثقل ظهورهم و فرض عليهم من العسكر و الخيل ما امتحنوا في أدائه.و لم يقم عنهم حتى أدوا جميع ذلك و حتى خرج الأشراف و المنتسبون من آهل مراكش إلى السلطان للشفاعة فيهم و الرغبة إليه في دخول منزله,فقبل السلطان أيده الله شفاعتهم و ارتحل عنهم فدخل مراكش آخر ذي القعدة من السنة(28 ذي القعدة 1292ه موافق 26 دجنبر 1875م ),و كانت مدة مقامه على الرحامنة ستة عشر يوما. ».(3)
إن جل القبائل كانت تتحين الفرص لتنتفض ضد قوادها وتهاجم قصباتهم،فهذه قبيلة أولاد أبى السباع جنوب غرب مراكش انتفضت ضد القائدين عبد الله بن بلعيد و عمر المتوكي،وكان رد فعل المخزن في عهد الحسن الأول أن أجبرها على طاعة ممثليه وعين عليها قائدين من الرحامنة هما : محمد بن زروال الرحماني,وأخوه العربي بن زروال الرحماني من أجل استخلاص ذعيرة الحرب و دفع الفريضة و النوائب.وخلال هذه الفترة ساد الأمن و الاستقرار،و أصبحت الرحامنة مثل باقي القبائل تؤدي الضرائب و الكلف المخزنية بانتظام،وأضاف إليها موقعها بعض الخدمات الأخرى كالمونة والزطاطة عند مرور « الحركات » و »المحلة » السلطانية.وتم تقسيمها إلى عدة قيادات صغيرة،عين المخزن عليها تسعة من القواد و كلفهم بالسهر على حفظ الأمن وجباية الضرائب، و قد طبعوا الحياة السياسية للقبيلة نهاية القرن التاسع عشر و عززوا الحضور المخزني و نظموا المجال،فتحسنت العلاقة بين القبيلة والمخزن.
ومن هؤلاء:القائد الناجم اليكوتي الرحماني،القائد المهدي الزبيري،القائد محمد الاغشاوي الرحماني،القائد عيسى بن امبارك الرحماني، القائد ابراهيم بن همد الرحماني، القائد ابراهيم بن الحسين الرحماني، القائد العربي بن الشرقي الرحماني. وأشهرهم، القائد عبد الحميد بن الفاطمي الرحماني الذي ينتمي إلى فخذة لحشاشدة بالرحامنة،عين قائدا منذ 1867م دامت قيادته زهاء 35 سنة،وبعد انتفاضة الرحامنة،والقاء القبض على قائد السيبة الطاهر بن سليمان،ونظرا لعلاقته بالوزير أحمد بن موسى « باحماد » عين عبد الحميد باشا على مدينة مراكش في الوقت الذي حافظ فيه على قيادة الرحامنة إلى أن توفي في أكتوبر 1902م ،وحاول ابنه الحاج العربي أن يخلفه،لكن خليفة القائد المسمى المهدي اغتال الابن طمعا في القيادة.
و عرفت العلاقة توترا بعد وفاة الحسن الأول،حيث فقد عبد الحميد منصب الباشوية و انحازت القبيلة إلى جانب المولى محمد الابن الأكبر للسلطان في الصراع الذي نشب من أجل السلطة.ولعبت فئة المحميين دورا أساسيا في تأجيج هذه الانتفاضات القبلية للامتناع عن أداء الضرائب،ومنها انتفاضة قبيلة الرحامنة بعد سنة 1894م والتي واجهها الوزير أحمد بن موسى « باحماد » بقسوة وعنف،وفرض عليها ما لا يستطيع الناس أداءه من أموال و أرواح.
و قد أطنبت الأدبيات الاستعمارية،والاستوغرافيا في الحديث عن تمرد الرحامنة بعد وفاة المولى الحسن الأول عندما هاجم محاربوها مدينة مراكش،وحاصروها مطالبين بتعيين قواد جدد و عزل القدامى الذين طغوا في البلاد ونهبوا البلاد والعباد.وذكر ابن زيدان في اتحاف أعلام الناس: « في هذه السنة ثار البعض من عتاة الرحامنة وراموا نهب مراكش،فلم يوافقوا على ذلك أهل الرأي منهم وخوفهم عقوبة السلطان وشدة بطشه ».(4). و تزعم هذا التمرد الذي دام سنة كاملة ضد ممثلي المخزن بمراكش القائد امبارك بن الطاهر بن سليمان، كان قائدا مخزنيا بمنطقة درعة وتم طرده ليحل بمدينة مراكش بعد وفاة المولى الحسن الأول ،وقد كانت قبيلة الرحامنة منتفضة ضد ممثلي المخزن.ولأن هذا القائد ينتسب إلى القبيلة،فقد استعان به باشا مراكش « ويدا » على تهدئة المنتفضين،لكنه تزعم هذه الانتفاضة وهاجم مراكش،وبعد قدوم المحلة المخزنية،فر الطاهر بن سليمان ليحتمي داخل إحدى الزوايا ،إلى أن ألقي عليه القبض من طرف الوزير أحمد بن موسى يوم 27 يناير من عام 1896م،ليودع السجن و يوضع في قفص ويطاف به عبر ساحات مراكش،وكانت وفاته في نفس السنة.وقد شجعت هذه الانتفاضة
قبائل أخرى على نهب قصبات قوادها,كالسراغنة مع قائدهم الجيلالي بن المؤدن، وهاجمت قبائل دمنات القائد الحاج الجيلالي الدمناتي،كما نهبت قبيلة بني مسكين دار الشافعي المسكيني.(5)
و لم يقف الصراع مع المدينة لأنها مصدر السلطة،بل توسع إلى نزاع مع قبائل الجيش خارج أسوار مراكش كالاوداية،و ادا أوبلال،و حربيل،وأيت ايمور. إن انهزام الرحامنة كانت له عواقب سلبية بعد وصول المحلة المخزنية إلى المجال الرحماني،بموت الكثير من رجال القبيلة،و سجن العدد الوفير،و إلقاء القبض على قائد التمرد بعد أن التجأ إلى إحدى الزوايا طالبا الأمان ويصف المختار السوسي هذا الوضع في كتابه المعسول قائلا :« أمرت الرحامنة أن يعطوا المرهونين أولا فيأتي الفارس,فيؤخذ فرسه و سلاحه إلى مخزن السلاح ثم يذهب به إلى السلسلة حتى وصلوا مئات، ثم فرقت فيالق الجيوش ثمانية،كل فيلق على طرف من القبيلة,،و أديرت الجيوش بأرض الرحامنة وزحفت الفرق من كل ناحية فالتهمت كلما في الرحامنة،فقتل من قتل و أسر من أسر(…) و نهب من نهب لقد رأيت سلاسل نصف من فيها أموات يجرهم من لا يزالون أحياء ثم في مراكش يعزل الأموات فيدفنون،و يذهب بالأحياء إلى الدفن في السجون. »(6)
كانت هذه الانتفاضات عبارة عن مقاومة قبلية داخلية لمواجهة السلطة الاستبدادية للرؤساء والقواد،والتي عجز المخزن نفسه على مراقبتها.وقد ساهم التماسك الجماعي وثقل الأعراف في بلورة هذه الانتفاضات كرد فعل عنيف للحفاظ على الهياكل القبلية التي تسعى السلطة الفردية إلى تقويض دعائمها.وهذه الظاهرة لم تقتصر على الرحامنة لأن كل القبائل كانت تستغل ضعف المخزن أو غيابه لتصفية حساباتها مع القواد،و لا ينتهي هذا التمرد إلا بقدوم المحلة المخزنية.
بعد نهاية هذا التمرد عند الرحامنة،و تهدئة الوضع بالجنوب،تمكن القواد المخزنيون من العودة إلى قصباتهم،و انضمت القبائل الأخرى لتعزيز جانب الحركة المخزنية.استرد القائد عبد الحميد منصبه،بعد أن كسب ثقة المخزن، وتوسعت سلطته لتشمل جل المناطق على حساب باقي القواد.و بعد أن اصبح سيد القبيلة،قام بمصادرة ممتلكات أفرادها داخل مدينة مراكش،و فرض الذعائر، وعامل الناس بقسوة بقيت عالقة بأذهانهم،و اثقل كاهلهم بضرائب تؤدي عن كل فرد،لم يستثن منها النساء و الأطفال.(7)
لم تخف سلطة القائد عبد الحميد إلا خلال أزمة الترتيب التي عرفها المغرب مع بداية القرن العشرين،والتي استفادت منها القبيلة، لأنها امتنعت عن دفع الضرائب مدة أربع سنوات،وقد استقر وضعها،وازدهر نشاطها الزراعي و الرعوي.إن تتبع العلاقة بين القبيلة و المخزن جعلنا نقف على بعض مظاهر التحول الاجتماعي منذ القرن التاسع عشر إلى حدود بداية القرن العشرين،وحاولنا ربط هذا التحول على مستوى البنية الاجتماعية للقبيلة بالتحولات السياسية التي عرفها المجتمع المغربي العام.وبعد وفاة القائد عبد الحميد الرحماني،ورغبة من المخزن في إعادة تنظيم مجالها تم تقسيم قبيلة الرحامنة إلى خمسة أخماس،وهو تقسيم إداري تنظيمي لجباية الضرائب،ودرء انتفاضاتها.
وقد اعتبر مونطاني السيبة محاولة لمقاومة سلطة المخزن,كعنصر خارجي على البنية القبلية،وأن انتفاضات القبائل لم تنقطع إلا بعد التدخل الفرنسي،وكانت تسعى للتملص من جبروت هذه السلطة.غير أن هذا التمرد،كان حالة طبيعية أمام عجز المخزن لانعدام إمكانياته،و وضعية تكاد تكون عامة خلال الأزمات السياسية،مما يعني أن مفهوم السيبة الذي تحدثت عنه الأدبيات الاستعمارية،لا يتطابق مع الوقائع و الممارسة القبلية.وهذا المفهوم استعمل كثيرا وتم إلصاقه بالقبائل الجبلية البربرية في مقابل القبائل السهلية الخاضعة دوما لسلطة المخزن.وهو مفهوم كان يستعمل في المناطق البربرية للدلالة على غياب النظام،و يدعى, »تاسيبت » و لا يعني الامتناع عن أداء الضرائب ونشر الفوضى كما جاء في تعريفات الدراسات الاستعمارية.(8)
من هنا لا يمكن فهم الانتفاضات المتكررة لقبيلة الرحامنة إلا في هذا السياق التاريخي،وهي انتفاضات جماعية تعبر عن حالة من الضعف وعدم القدرة عن أداء الضرائب.وغالبا ما تحركها الفئات الغنية عندما تتهدد مصالحها،لتواجه شطط القواد،أما الفئات الفقيرة من الفلاحين،وصغار المزارعين،فكانوا يهربون خارج « إيالة » القائد نحو المدن،أو يلجئون إلى النهب واللصوصية،أو إلى العنف المضاد ضد القواد عندما تنتفض القبائل عفويا،وتهاجم القصبات،وتنهبها.وهذا السلوك الجماعي الذي عاشته قبيلة الرحامنة إلى جانب القبائل المغربية الأخرى،مفارق للسيبة كمفهوم حددته الأدبيات الاستعمارية بأنه رفض لسلطة المخزن ،ولا يدل على الصراع بين الطبقات،بل غالبا ما يكون احتجاج الأغنياء ضد القواد،لا يستفيد منه الفقراء،رغم أنهم يشاركون في هذه الانتفاضات بحكم تبعيتهم وصلاتهم العشائرية بهؤلاء الأغنياء.(9)
1 MIEGE,J,J .- Le Maroc et l’Europe(1830-1894). Ed. la porte, Rabat, 1989, T.2, p.388. & AYACHE,G .- Etudes d’ histoire marocaine. Op.cit.,p.116.
2 السوسي،محمد المختار .- المعسول. ج.20،الدارالبيضاء،1960،ص. 18.
3 الناصري،أحمد بن خالد .- الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى. ج.9،دار الكتاب،الدار البيضاء ، 1956.ص.148.
4 بن زيدان،عبد الرحمان .- اتحاف أعلام الناس بجمال أخبا
عمر الابوركي
proposé par bourki
Commentaires récents