الرحامنة :الإنسان والمجال
تحية خالصة للأخوة الساهرين على موقع الرحامنة الذي يساهم بشكل مستمر في نشر المعارف وربط عرى التواصل. وبعد،
مساهمة مني في تنشيط هذا الموقع و إشراك زواره، ارتأيت نشر بعض الدراسات التاريخية والسوسيولوجية التي تتناول بالتحليل مجال الرحامنة كتاريخ وسيرورة،لعلها تنير بعض الجوانب،وتنعش الجدل العلمي بين الباحثين المهتمين،وتسمح لطلاب المعرفة بالتعرف على مجال الأبحاث والدراسات التي أنجزت حول المجتمع المغربي،ومكوناته الثقافية،وأملي كبير في أن تشبع نهم المتعطشين لهذا النوع من الدراسات. وبين الفينة والأخرى ساحاول أن اختلس الزمان، لأسرد بعض المقتطفات من تاريخ المكان.
إن الاختلاف النظري في تناول القبيلة داخل المجتمع ألمغاربي قد أفرز ثلاث فرضيات أساسية،تأرجحت بين التفسير الجنيالوجي- ألسلالي، والايكولوجي الترابي،وأخيرا التفسير التاريخي.لقد بحث كل تفسير عما يعزز فرضيته في الواقع القبلي،وحاول الكشف عن آليات القبيلة تاريخيا وبشريا و جغرافيا. انطلاقا من هذه الفرضيات المختلفة سنحاول تحليل البنية القبلية للرحامنة،وإخضاع مكوناتها لهذا الاختلاف النظري البحث لتعزيز أو تفنيد إحدى الفرضيات،وحتى نقترب من تفكيك مجالها الإنساني والثقافي.
ركز بعض الباحثين في المجال القبلي على الأصل المشترك الذي تقوم فيه القرابة بوظيفة أساسية في الجمع بين الأجزاء المتفرقة،وانطلاقا من القرابة أو الدم كعنصر للتماسك القبلي،فان تعدد الأجزاء يعني أنها انسلخت عن الجزء الأصلي الذي يتفرع عبر الأمكنة البعيدة،والأزمنة المتلاحقة مع الحفاظ على اسم الجد المشترك.انطلاقا من هذا التصور،فالاسم « الرحامنة » عربي الاشتقاق في صيغة الجمع،يعني أبناء عبد الرحمان،ورغم أن بعض أجزائها تنسب إلى أشخاص »أولاد فلان »و »أيت فلان »،فان وحدة النسب أو الجد المشترك تبدو مستبعدة أو مجرد وهم لا تفسر لنا طبيعة هذه القبيلة.
لقد تشكلت أجزاء قبيلة الرحامنة بسبب هجرة القبائل العربية من الشرق إلى الغرب الإسلامي،وعبر الامتداد الأفقي لفروعمتعددة من أصل واحد يبين أن بعض أجزاء القبيلة انتقلت من الشرق والجنوب قبل الاستقرار النهائي داخل مجالها الترابيوالاجتماعي.إن ذلك يعني أن الأصل ثقافي أكثر منه دموي،وأنها عرفت امتداد وانتشار فروع متعددة عبر الزمان والمكان،ويجعلمنها مجموعة من العروش تفرعت عن جذور متعددة من الشرق والجنوب.ولتأكيد هذه الفرضية يحاول جاك بيرك تفسير ظاهرة الانتشار القبلي في مجتمعات المغرب الكبير في تساؤله: ما هي القبيلة بشمال إفريقيا؟ « إن تفسير هذهالظاهرة يكمن في الانتشار المبكر لفروع أساسية رمتبأغصانها صوب كل الاتجاهات،هكذا نفهم سر التناثر المدهش الذيشهدته بعض المجموعات التي تتحدث عنها الكتابات الإخبارية :لنأخذمثال اللواتة الذين كانوا بليبيا خلال العصر الوسيط،فلا زالتمجموعتان منهم تحملان هذا الاسم بجوار ابن جرير بالمغرب »(1)
وتأتي الفرضية الأيكولوجية لتطرح المجال بديلا لفهم طبيعة القبيلة، وتجاوز فكرة الجد المشترك،لوجود عامل الأرض الذي يجسد الرابطة بين عشائر القبيلة.ففي تعريفه للقبيلة يركز مونطاني على كونها مجموعة من الأجزاء التي تملك أرضا وتجمعها عادات مشتركة،وغالبا ما تكون غير خاضعة لأية سلطة سياسية.وتظهر وحدتها عندما يهددها العدو الخارجي،لأن ما يجمع الأفراد هو الدفاع عن الأرض،وامتلاك مجال محدد له أهمية أكثر من الاعتقاد في فكرة الجد الواحد.إن الحديث هنا عن المجال الترابي الجبلي بالأطلس الكبير يجعل القبيلة فضاء مغلقا أو عبارة عما سماه « جمهورية » مستقلة يسيرها مجلس جماعي ديمقراطي.(2)
إذا حاولنا إخضاع قبيلة الرحامنة لهذه الأطروحة،نجد أن طبيعة المكان الذي تتواجد فيه عبارة عن أرض منبسطة جرداء قاحلة في أغلبها،ثم أن الاستقرار في هذا المجال المفتوح لم يكن نهائيا إلا في القرن التاسع عشر لأن أهم العشائر من الرحل ولم تتجمع إلى بعد فترات طويلة من الانتجاع.إن الترحال المتواصل والمجال المفتوح يستبعدان الارتباط بالأرض،ويحول دون أن تحمل القبيلة اسم الإطار الجغرافي الذي يأويها.و التاريخ كفيل باستقراء مكونات قبيلة الرحامنة،لأن الافتراض الجينالوجي أو الايكولوجي لا يسمحان بفهم طبيعتها بل يباعدان بين مفهومين مترابطين هما؛القبيلة والتاريخ.(3)
فالقبيلة ليست واقعا جغرافيا،بل اجتماعيا تشكل عبر سيرورة طويلة يمكن فهم تنظيمها الداخلي من خلال تطورها في الزمان.وتكوينها لم يخرج عن التاريخ العام للمجتمع الذي عرف تنقل وحركة المجموعات القبلية عبر مجالات ترابية مترامية،وخلال قرون من الزمن.لقد تشكلت قبيلة الرحامنة بعد تمازج عناصر مختلفة،تلاقحت بفعل نزوحها من الجنوب نحو الشمال قبل أن تستقر شمال مدينة مراكش،داخل مجال محدد بين نهري أم الربيع شمالا و تانسيفت جنوبا.إنها من القبائل المكونة لعرب « معقل » التي قدمت من الجنوب المغربي إلى جانب تجمعات قبلية أخرى « كالاوداية » و احمر » بعد قرون من الانتقال و الانتشار الناتجين عن التجارة و الرعي في حالة السلم,أو الانكماش و التوسع في حالة الحرب.
يصنف جورج هاردي G.HARDY القبائل المغربية ويصف الرحامنة بأنها من القبائل العربية التي تتميز عن البربرية بالأطلس أو الريف,فهي مجموعة من الأجزاء لها مميزات ثقافية عربية صرفة على مستوى لهجة التخاطب لأن لغتها هي العربية كرمز ثقافي محدد,إضافة إلى خصائص اجتماعية و ثقافية كالتقاليد و القيم و نمط العيش الرعوي يجعل منها قبيلة معقلية لحقتها بعض التأثيرات البربرية,وامتزجت داخلها عناصر مركبة تعكس التنقلات التاريخية التي قطعتها القبيلة قبل الاستقرار النهائي.يقول: « إن طبيعتهم المتميزة بالشجاعة و الكرم تنطبق مع الطابع العربي،لأن لغتهم هي العربية بدون استثناء,و يعتمدون على الرعي,و فيما يبدو فانهم تلقوا تأثيرات من البرابرة ».(4)
كانت قبيلة الرحامنة تعيش على الترحال,و لم تختر أبدا أن تعيش في منطقة محددة و خالية من الخيرات الطبيعية التي تمكنها من تحسين مستواها المعيشي.بل كانت دائمة البحث عن الأماكن الخصبة التي ينتعش فيها التبادل التجاري,أو تتواجد فيها المراعي لأنها ليست قبيلة مزارعة.فالتنقل مغامرة تغري القبائل الرحل بالتوجه نحو الشمال,أي نحو الأراضي الخصبة من سهل سوس,إلى الحوز,ثم الغرب في أقصى الشمال المغربي.و بين مرحلتي التواجد في أقصى الجنوب المغربي,و الاستقرار النهائي شمال مراكش,عرفت قبيلة الرحامنة تحولات بنيوية هامة على مستوى التكوين,و النشاط الاقتصادي و السياسي.وقد ساعدها الترحال المستمر على اكتشاف مناطق متوغلة شمال موقعها الأصلي.كما أن التفاعل مع الأمكنة أدى إلى تجميع عناصر متنوعة أصبحت من مكوناتها الأساسية,في حين تركت بعض بقاياها في المواقع التي مرت منها.و إذا كانت القبائل الرعوية لا تنضبط لسلطة المؤسسات السلطوية يساعدها في ذلك المجال المفتوح و التنقل الدائم و الانقسام اللامتناهي والممتد عبر الزمان,فان الشروط السياسية العامة تدفعها دفعا إلى الخروج من عزلتها و هامشيتها خاصة عندما يتعرض المغرب إلى تدخل أجنبي أو قوى غازية.إن هذا العامل الخارجي ينعكس على بنية القبيلة ومكوناتها البشرية, و نمط عيشها,بل يساهم في تجميعها أو تشتيتها,و استقرارها فترة من الزمن.
Commentaires récents